لم تكن قضايا من قبيل مفهوم الجهاد وأحكامه، وأسلوب التعامل مع النص القرآني وأدواته.
والعلاقة مع الآخر ونموذج الدولة الإسلامية، والمناهج التعليمية، وغيرها من القضايا لتنال كل هذا الإهتمام الدولي لو لم يتحول الإسلام إلى مركز الحدث بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
ويندرج كتاب "وجهة نظر مسيحية دفاعاً عن الجهاد، حقيقة الجهاد"، لمؤلفه أرشي أوغستاين، (دار صفحات، دمشق، ط1، 2008م) في سياق الدراسات المتتالية حول القضايا المذكورة.
ويركز على قضية مشروعية الجهاد والتهم الملصقة به، وكيفية تعامل الغرب مع هذا المفهوم ومدى شرعية سعي بعض التيارات الإسلامية لاستعادة نظام الخلافة الإسلامية.
وتنبع أهمية الكتاب من خلال تمثيله وجهة نظر غير إسلامية منصفة، عايشت عذابات المسلمين في عدد من البلدان - البوسنة وفلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها - من خلال عمل المؤلف الحاصل على إجازة في الحقوق في عدد من البرامج التطوعية، ومعاينته المباشرة لمنعكسات سوء فهم الإسلام على علاقة الآخرين بأبنائه.
وفي لهجة غير مألوفة، يحاول المؤلف تبديد المخاوف المتنامية حول خطر "المد الإسلامي" في أوروبا والولايات المتحدة فيعزو وجودها إلى جهل غير المسلمين بالإسلام، مؤكداً أن الإستنتاجات والحقائق التي توصل إليها في بحثه جاءت من خلال معاينته ومطالعته النص القرآني وبناء على دراسة معمقة له.
ينطلق المؤلف في فصله الأول من بيان ماهية الأصولية الإسلامية التي تهاجم في الغرب على نطاق واسع، فيرى أنها تقوم على اعتقاد التفسير الحرفي لآيات القرآن الكريم كما تنزلت تماماً رغبة في إعطاء المعنى الظاهر للآيات.
وهو ما يعده توافقاً مع القواعد المعاصرة لتفسير نصوص القانون، ويخوض في محاولة بيان أسباب حرص وسائل الإعلام الغربية على تشويه مصطلح "الأصولية الإسلامية" وإظهار الأصوليين الإسلاميين في شكل مغاير للواقع، في الوقت الذي لا تقوم وسائل الإعلام الغربية بالشيء نفسه مع "الأصوليين المسيحيين".
ويرد ذلك إلى إسقاط غالبية الحكومات الغربية الدين من دائرة اهتماماتها في سياق سعيها وراء الثروة التي تعتبر دعامة للمعتقدات التي ترتكز عليها. ويقرر المؤلف: [إن الدين الإسلامي هو آخر الديانات التي تتمسك بأصولها، وأن تيار "الأصولية" يسعى في سبيل الحفاظ على التغيرات ضمن نهج السنّة المتفق مع القرآن، و حماية الإسلام وطقوسه من أي هجوم خارجي أو فتنة داخلية].
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى التأسيس لمشروعية المقاومة (أو الجهاد) بغية توضيح ذلك للإنسان الغربي، معتبراً أن مقاومة الاحتلال أمر شرعي من وجهة نظر إسلامية تستند في شكل واضح وبسيط إلى الأمر القرآني: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة 190).
فالجهاد في الإسلام، من وجهة نظر المؤلف، مشروع لغايات دفاعية، من دون أن ينفي إمكانية شن الهجوم وحتى القيام بضربات وقائية، إن استدعى الأمر. مقارناً بينه وبين قانون الدفاع عن النفس كما هو معروف في شكل شائع في المحاكم العلمانية.
ويرى الكاتب في الفصل الرابع أن تنامي المشاعر الإيمانية في المجتمعات الإسلامية هو الحاضن الرئيس للحفاظ على مشروعية حركات المقاومة واستمرارها على رغم ما تعانيه من ضربات وهزات، الأمر الذي يفرض على الإنسان في الغرب ضرورة زيادة الوعي بالإسلام، وتجاوز محاولات نبذه المتعمدة استناداً إلى الخوف من سرعة تمدده وانتشاره.
فبسبب تلك المخاوف الغربية والرغبة في تحجيم تعاظم انتشار الإسلام، قام الصرب بجرائم إبادة جماعية بحق مسلمي البوسنة لاعتقادهم عدم وجود عواقب لجرائمهم، فيما لم يكن تدخل الغرب في نهاية المطاف إلا خدمة لمصالحه الخاصة.
في الفصل الخامس، يؤكد المؤلف أن محاولات الفهم والإحترام المسيحية للإسلام إنما تتأتى فقط من النصارى التقليديين غير المتشبعين بالرؤية النفعية للأمور، وفي الوقت الذي تشهد الديانة المسيحية تراجعاً على صعيد المكانة داخل مجتمعاتها، فإن منعكسات ذلك على الإسلام تتمثل في العداء المفتوح والمقرون بالدعاية المضادة.
ثم يؤكد المؤلف بعد ذلك ضرورة أن يكون المسلم محكوماً بالقرآن لا بالمؤسسات العلمانية، وأنه من غير الصحيح ما يشاع حول رغبة المسلمين في فرض نظام إسلامي على كل شخص دون استثناء، وأن تعاليم الإسلام تمنح الحق لغير المسلمين بإدارة شؤونهم الخاصة التي لا تتعارض مع مبادئ النظام العام الإسلامي.
أما عن سعي المسلمين لإقامة دولة إسلامية واحدة من خلال إزالة الحواجز الإقليمية بين الدول الإسلامية، فيرى فيه المؤلف حقاً مشروعاً، مبرراً ذلك بعدم اعتراف المسلمين بحدود وهمية رسمها الاستعمار الأوروبي لتسهيل سيطرته ونهبه لثروات الشعوب الإسلامية. ويشير في الفصل الأخير إلى حقيقة واقعية [إن القرآن الكريم يشكل مرآة للبشر، حيث نرى الرجل على حقيقته ونرى كل عيوبه وظلمه وجبنه] .
قد يبدو الكتاب للوهلة الأولى مجرد محاولة جريئة من جانب الآخر لسبر أغوار واحدة من أعقد القضايا التي تشكل حاجزاً نفسياً بالنسبة إليه، بيد أن أسلوب التناول والمعالجة من المؤلف يرسم الكثير من إشارات الإستفهام حول مدى قناعة الطرف الآخر (المسلمين) بجدية هذه المحاولة وموضوعيتها في ظل واقع مؤلم بات فيه البحث عن نقاط الالتقاء كسراب يحسبه الظمآن ماء.
___________
المصدر: الحياة اللندنية العدد16528 بـ "تصرف"